آه يا قدس، يا وجع التاريخ، وملحمة المؤمنين. تهوّدين أمام عيوننا وعقولنا عنكِ مشغولة، وتسلبين من بين فجوات جاهليتنا وفرقتنا. إفترقنا لنفترق عنكِ، وتبعثرت كلماتنا بخلافاتنا. لم يعد حُبنا لك يجمعنا، لم يستفزنَا 'كنيس الخراب' ولا إستيطاناتهم القديمة والجديدة. تركناكِ تغرقين بدماء أبنائكِ المقدسين، وما زلنا نحن على مقاعد المتفرجين. لاتكبيرات مؤذن الأقصى، اللّه أكبر، ولا دم المسيح على مذبح كنيسة القيامة ولا أجراسها يسمعها المتخاصمون.
لم تفجري فينا فلسطينيتنا، وعروبتنا، لا إسلاميين ولا مسيحيين، وغاب عنا رشدنا. نعبد أصنام صراعاتنا التي صنعناها بأيدينا، ولم تعد أولى القبلتين قبلتنا. أصبحت خلافاتنا 'قدسنا الجديدة'، ومحرابنا الفتنة والإنقسام ونعراتنا الفئوية. لا تنتظري وحدتنا، فالمشوار طويل حتى ننتهي من تصفية حساباتنا. لم نعد كما كنا نطوي خلافاتنا ونتحد من أجلكِ. فنحن اليوم شتى، وعقلاء القوم رحلوا، أو عقولنا رحلت عنا.
لك اللّه يا قدس، لا تنتظريهم، فهم مشغولون عنكِ، وجعلوا أولوياتهم تصفية حساباتهم ودماء أخوتهم. لقد غيروا الآذان وأجراس الكنائس، ويرصّون صفوفهم خلف دروع أحقادهم، وجعلوا الإنتقام أمامهم. فلا أمل فيهم، ولا رجاء منهم، إنهم ضياع في ضياع. فقاومي وحدكِ، وأنت وحدكِ، وصارعي لحماية قداستك. اللّه يحميك من اليهود وإسرائيل، ويبعد عنك شرّ تناقضاتنا الداخلية، لكِ اللّه يا قدس، لكِ اللّه.
يا ليتكِ تحركين فينا روح التسامي، وعقلية القفز عن صراعاتنا الثانوية، ونرفعكِ فوق خلافاتنا، وتكونين يا قدس أولى أولوياتنا. فيا بني شعبي، يا شعب القدس، لم يعد لدينا متسع من الوقت نختلف فيه على مواضع أحرف الجر في صياغة مشاريع ما ننوي الإتفاق عليه. فأحرف: من، وعلى، وإلى، وبلاغة الإتفاق لن توفر السلامة، فالأمر ليس في النصوص، إنما في خبايا النفوس. ولا يكون صلاحنا إلا إذا عملنا بقول اللّه تعالى ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ صدق اللّه العظيم.
لقد حان الوقت أن نقلع عن لغة الإتهام والتخوين، وعلينا أن نتعقل ونطوي ملف خلافاتنا. لم تعد تفيدنا مفردات 'دايتون، والتنسيق الأمني، والإنقلاب والإنقسام، وتعديل الإتفاق، وعدم التوقيع ... إلخ'. ولا يجوز بعد اليوم تأخير ساعة واحدة في سبيل لم شمل كلمتنا، وتوحيد مواقفنا، وحشد طاقاتنا، وتعزيز إرادتنا للدفاع عن قدسنا.
فيا قوم غلبّوا حماية القدس وسلامتها من كل دنس، وارفعوها فوق المصالح الفئوية، فهي تستحق منا جميعاً، بدون إستثناء، أن نهرول وإنهاء إنقسامنا، ونعود منها متحدين يجمعنا اسمها ونستظل تحت قبابها. فهي ستبقى إلى يوم الدين قدسنا، قبلتنا الأولى، وثالث الحرمين الشرفين، مسرى النبي عليه الصلاة والسلام، وطريق آلام سيدنا المسيح عليه السلام. إنها تاج نضالنا، ومن أجلها إنطلقت ثورتنا، وتكونت فصائلنا. فإن لم نكن على قدر المسؤولية في الدفاع عنها، فلا حول ولا قوة إلا باللّه، ولكِ اللّه يا قدس، لكِ اللّه، وآه .. آه يا قدس.